ما الذي يدفع أحداً هذه الأيام إلى الكلام على اليسار في أيّ مكان، فما بالك بالكلام عليه في سوريا؟ ما الذي يدفع أحداً إلى الاهتمام بجماعةٍ هامشية عجوز، لم يتجاوز جمهورها بضعة آلاف من «المتثاقفين» في أيّ يوم من الخمسين عاماً الماضية، وتبدو وخطابها اليوم كأنّها قادمة من كوكبٍ آخر وعصرٍ مغاير؟
ما يدفعني إلى ذلك، الآن تحديداً، أربعة أمور:
الأول، هو أنَّ الخطّ التاريخي لليسار السوري، خطّ التغيير الوطني الديموقراطي، برغم كلّ ثقوبه التي تركها القمع والتخلّف مفتوحةً على وسعها، هو خطّ الثورة في سوريا. وقد رأينا الى الآن ما يكفي ويزيد من تبعات تراجعه وغيابه، بدءاً بانحراف الحراك صوب سياسات الهوية الطائفية، مروراً بالخضوع لقوى العنف السلفي التكفيري، وصولاً إلى الارتباط بأجندات خارجية هي أجندات أعتى أعداء الشعوب وثوراتها إقليمياً ودولياً، حتى ليكاد يصحّ القول أن لا ثورة ولا تغيير في سوريا إن لم يكن خطّهما هو هذا الخطّ.
الثاني، هو أنّ اليسار السوري الوطني الديموقراطي، على تواضع حضوره، كان الوحيد الذي وقفت سرديته، خصوصاً في السنوات الأربع الماضية، إزاء سردية النظام كما إزاء سرديات ليبرالية وتكفيرية تدّعي مناصبته العداء لكنها تكاد تتطابق مع روايته، إذ ترى، مثلها، أنَّ ما يجري مؤامرة، وأنَّ للطائفية فيها الدور الأساس، وأنَّ النظام والدولة متطابقان تمام التطابق، وأنَّ الحلّ العنيف هو الحلّ، واستجلاب التدخل الخارجي مباح ومبرَّر؛ فلا يكاد يختلف هذان الطرفان في شيء عدا الطائفة التي يُعلى شأنها والجهة الخارجية التي يُستجلَب تدخلها.
ربما كان الأهمّ في سردية اليسار السوري هذه هو حسن تقديره موازين القوى في سوريا منذ بداية العام 2011، واتجاهاتها المحتملة ومخاطرها، وما تتيحه من أشكال نضالية تواكب انطلاقة الحضور الشعبي وتتفادى حرفه باتجاهات رديئة على يد قوى ليست نقيضة للنظام في الحقيقة ولو عارضته. وجوهر رؤية اليسار هنا هو أنَّ الخلاص من الاستبداد الفاسد إمّا أن يكون خلاصاً وطنياً ديموقراطياً أو لا يكون؛ وأنّ ميزان القوى وطبيعة النظام يقتضيان أن يكون هذا الخلاص سيرورة متصاعدة تتلاقى فيها المقاومة المدنية السلمية والعمل السياسي، والعفوية والوعي، وحماسة الشباب وخبرة الشيوخ، في جولات متلاحقة تحتمل الفشل والتراجع لا بسبب قوة الطرف الآخر فحسب، بل أيضاً درءاً للمخاطر الأسوأ التي رأينا كيف دُفعَ بلدنا على سكّتها بكلّ توحشّ وبفقدان للبصيرة لا تجده سوى لدى أنظمة القتل والأغرار ذوي البلادة العقلية والمجرمين السياسيين.
ثالثُ ما يدفع إلى الكلام على اليسار في سوريا هو ما يبديه خصومه حياله من خشية واعتبار لخطره المحتمل، وإلا فما سبب القمع الرهيب المتواصل على مدى عقود لبضع مئات من الطلبة والمثقفين؟ ولماذا يُخطَف اليوم أمثال عبد العزيز الخيّر ورجاء الناصر؟ ولماذا الخوف من التفاوض مع القوى الوطنية الديموقراطية وتخريب كل محاولة على هذا الصعيد؟ كما أنَّ ما يدفع إلى الكلام على اليسار، من جهة أخرى، هو ما كان قد أُعطي له من وزن في بداية الانتفاضة في جميع الكيانات السياسية التي تأسست لتواكب الحراك، من «هيئة التنسيق»، اليسارية في مجملها، إلى «المجلس الوطني» و"الائتلاف"، حيث ترأس يساريون سابقون دورات عديدة لهذه الكيانات وكان لهم فيها دور ووزن راجحين، قبل وفي أثناء استكمالهم هناك وفي غير مكان مسيرة التحول إلى ما أدعوه «يسار النُّصرة».
لا أقصد بـ «يسار النُّصرة» و «يسار النِّظام» كيانات تقف إلى يسار «جبهة النُّصرة» أو إلى يسار النّظام، بل أقصد يساراً لصاحبته النّصرة أو لصاحبه النظام، يساراً لهما، خاصاً بهما و «تبعهما»، بعلمهما أم بغيره. و «يسار النّظام» قديم ومعروف، توطّن في جبهته «الوطنية التقدمية» منذ الأزل، وتماهى معه منذ اعتباره نظاماً سائراً في طريق «التطور اللارأسمالي» في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، حين كان هذا النظام يخطو خطوات واسعة في طريق أسوأ أنواع التطور الرأسمالي الطفيلي المشوّه والمتخلف، وصولاً إلى اعتباره قلعة ممانعة الإمبريالية في العقود اللاحقة، حين كان يواصل قمعه الوطنيين والديموقراطيين وكبته الحريات الأساسية على نحو كفيل بأن يحدث شرخاً أكيداً في أيّ ممانعة أو مقاومة، ويودي بها.
«يسار النُّصرة» قديم ومعروف أيضاً، بعكس ما قد يتوقع المرء للوهلة الأولى. هو «يسار النُّصرة» قبل أن توجد النُّصرة. كان يسارها بالقوّة، كما يُقال في الفلسفة، قبل أن يصير يسارها بالفعل. ويكاد يكفي لتوصيفه أن نقول إنه مقلوب «يسار النّظام» ووجه عملته الآخر. ولا نحتاج إلى أكثر من تحديد أعداء النّظام في كلّ فترة كي نعلم قائمة الذين هم محطّ إعجاب «يسار النُّصرة» وحلفاؤه في تلك الفترة: صدّام حسين الذي اعتبره هؤلاء «حارس البوابة الشرقية» وغضّوا البصر عن كلّ قمعه الوحشي؛ الجيوش الأميركية المحتلة أو المستعدة للاحتلال باعتبارها «صفراً استعمارياً» مفضّلاً على الاستبداد الداخلي وأسهل مقاومةً لا نعرف كيف؛ ممالك النفط وإماراته؛ عرفات وميشال عون حين كانا خصمين للنظام والانقلاب حيالهما بانقلاب مواقفهما من النظام؛ قوى الانعزال اللبناني.. إلى آخر هذه القائمة العجيبة التي ثمّة بوادر لافتة أنها قد تنتهي عند بعضهم بإسرائيل.
مع ثورات «الربيع العربي»، وخصوصاً مع بداية تعثّرها وقمعها المفرط، بدأ «يسار النّصرة» هذا عملية تحوّله من يسارها بالقوة إلى يسارها بالفعل: لم يلاق الحراك العفوي السوري في 2011 ببرامج وإستراتيجيات وتكتيكات تأخذ في حسبانها الوضع وتوازن القوى والأخطار المحتملة، بل لاقاه بأردأ أنواع الشعبوية التي تعزف على آلام القتل الوحشي وجراحه، وراح يبيع المنتفضين شعاراته الفارغة كأنها شعاراتهم بعدما مررها إليهم هو وحلفاؤه الإسلاميون من وراء الكواليس ثم تبنّوها على أنّها مطالب الشعب الذي لا سبيل إلى رفض ما يريد. بدا الأمر آنذاك كأنّه فرصة لا تتكرر، نقتنصها ولو خرب العالم. وحين صعب اقتناص الفرصة، فضّل هذا «اليسار» لا العنف المعارض فحسب، بل قسمة الجيش والعلَم والبلد، والتدخل الخارجي، والطائفية.. حجّته في كلّ ذلك لا تتعدّى حجج «الفهم الشائع» أو ما يُدعى «الحسّ العام» الذي كثيراً ما يكون انعداماً تاماً لكلّ حسّ.
مع ازدياد القمع وتسيّد حركات إرهابية تكفيرية ليس «داعش» و «النصرة» سوى مثاليها الأبرز، كشف «يسار النصرة» هذا عن وجه ظلاميّ عبثي رهيب، لا يكتفي بتبرير الإرهاب، بل توجّهه الطائفي وفكرة عجيبة في سذاجتها مفادها أنّ «داعش» و «النصرة» أداة التاريخ في إنفاذ خططه، وأنهما، مثل الاحتلال الأجنبي في التوهّم السخيف المدعو «نظرية الصفر الاستعماري»، يسهل الخلاص منهما أكثر من النظام المستبد. ولا يكاد «يسار النصرة» هذا يتلمس رأسه ويتحسس خطر مثل هذه القوى، إذ تمارس حياله تهميشاً أو قمعاً وخطفاً لا يزال الغموض يكتنفهما، حتى يعود سريعاً إلى اعتبار كلّ أرض يستولي عليها هذا الإرهاب التكفيري أرضاً محررةً، واعتبار ما يقوم به هو الثورة التي يرى أنها لا تزال مستمرة مهما تكن قيادتها وطبيعة قواها وأهدافها. ومع خروج معظم «يسار النصرة» من البلد، وانعدام دوره تماماً، تبقى «معجزته» التي لا بدّ من تسجيلها باسمه هي تلك الطائفية العنصرية بالغة التسطيح والغباء التي تستسهل الكلام على جماعات بشرية كاملة مدحاً أو قدحاً، ولا تتردد في الإشارة إلى كتل مصمتة لها سيكولوجيتها الجمعية، ومن الممكن إبادتها أو إدخالها جنان الخلد، الأمر الذي لم يقل النازيون أو يفعلوا ما يتعدّاه كثيراً.
كي لا يبدو الأمر كما لو أننا نتكلم على أشباح وهلام، فإنّ الكتلة الأساسية لـ «يسار النُّصرة» بنزوعه النازي المستجد تبقى في إطار «المجلس الوطني» و «الائتلاف»، خصوصاً «حزب الشعب» (جماعة رياض الترك) والأطراف القريبة منه في «إعلان دمشق» و «حركة إحياء المجتمع المدني»، ومن انضافَ إليهم من «متلبرلي» «حزب العمل الشيوعي» الذين لم يبينوا عن أيّ شيء يؤكّد أدنى معرفة جدّية بالليبرالية، ولا كلام في أفواههم إلا على الطوائف (بدلاً من «الطبقات» أيام الماركسية)، وبضعة آحاد من الشيوعيين الرسميين السابقين (أعضاء برلمان ومستشارين اقتصاديين للنظام وكتبة مداومين في جرائده...) نبتت فجأة لا ثوريتهم فحسب، بل طائفيتهم أيضاً، واستعدادهم للإخلال بكل ثوابت وطنية لطالما قدّموها على مقتضيات الديموقراطية والعدالة الاجتماعية. وينضاف إلى هؤلاء جميعاً عدد مما دُعي «شباب الحراك»، كانوا الأميز بانعدام الخبرة والمعرفة وكثرة الزعيق وسرعة الهروب والاستعداد لبيع أرواحهم لكل من يشتري، وكذلك ثلّة من الكتبة الجاهزين للكتابة أنّى تشاء وكيف تشاء، لم يعد في عقولهم وعلى أفواههم سوى الطوائف تتشكل وتتصارع بحسب مشيئتهم التي يحسبونها الواقع
رابع، وآخر، ما يدعو إلى الكلام على اليسار هو المستقبل. فكما تبيّن أنَّ لا حياة لــ «ربيع» فعلي من دون أجندة وطنية ديموقراطية ويسارية للتحرر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كذلك لا سبيل إلى إنقاذ البلد، أو ما تبقى منه، من دون اقتراحات اليسار، الغائب الأكبر.
هل بقي ثمة يسار سوري، وطني ديموقراطي، يقترح ويلتم،ّ ويعاود دفع الصخرة؟
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"السفير"]